[مقالة عمودية] التنافر السردي وشذرات حول قصص الألعاب
من أكبر المعضلات في عالم صناعة الألعاب معضلة الانفصال بين القصة وأسلوب اللعبة، ففي معظم الألعاب نرى في مقاطعها السينمائية (Cutscenes) لحظات مؤثرة مثل موت صديق البطل على سبيل المثال، ونرى حزنه الشديد عليه لدرجة نتوقع معها أن البطل سينهار ولن يستطيع المضي قدماً، وكثيراً ما نتأثر مع هذه المشاهد، لكن ما أن ينتهي المقطع السينمائي حتى يختفي كل هذا وكأن أمراً لم يكن، ونرى البطل انقض في حماس للهجوم على الأعداء أو استكمال مغامرته، حتى مشاعر الحزن التي شعر بها اللاعب سرعان ما تتبخر تحت وطأة الأدرينالين المنبعث من قتال الأعداء.
أيضاً من الأمور المشهورة في الألعاب أنها تحاول أحياناُ أن تقدم لنا قصة مقنعة في مقاطعها السينمائية، لكن ما أن تأتي مقاطع اللعب، ويصبح اللاعب متحكماً بالبطل حتى تفقد القصة قدرتها على الاقناع، فعلى سبيل المثال لا قصة بمقدورها أن تبرر كمية القتالات المهولة التي يدخلها اللاعب، وعدد الأعداء الذين ينهمرون عليه كالرز من كل حدب وصوب، وكيف يمكننا أن نصدق أن البطل الذي رأيناه يحزن مثلاً على موت صديقه هو نفسه البطل عديم الاحساس الذي نتحكم به ويقتل بلا هوادة؟!
هذه الأمثلة وغيرها شائعة الظهور في الألعاب، فكثيراً ما تكون القصة التي تظهر في المقاطع السينمائية للعبة أو مستنداتها النصية المنثورة هنا وهناك في عالم اللعبة تحمل قصة بثيمة مشاعر معينة، وبين كل مقطع سينمائي ومقطع ومستند نصي ومستند توجد مقاطع لعب يتحكم فيها اللاعب بالبطل ليختبر مشاعر أخرى مختلفة، مما يجعل مقاطع القصة في اللعبة مجرد استراحات محارب بين مقاطع اللعب، ومقاطع اللعب مجرد وصلات للانتقال من مقطع قصة إلى آخر.
التنافر السردي في الألعاب
هذه المشكلة أصبحت من أكثر المشاكل التي تقف أمام تحول الألعاب إلى وسط فني راقي قادر على طرح القصص بكفاءة الأدب والسينما، وقد اصطلح على تسميها بإسم “تنافر السرد الألعابي Ludonarrative dissonance“، وهو مصطلح ظهر لأول مرة على يد المخرج الإبداعي لدى شركة LucasArts ولاحقاً Ubisoft المخرج Clint Hocking في تدوينة كتبها عام 2007 عن لعبة Bioshock الأولى، والذي تحدث فيها عن أن قصة اللعبة تطلب منك أن تكون معاد لهوس العدو الرئيسي في القصة Andrew Ryan للقوة والكمال الذي تسبب في تدمير مدينة Rapture التي بناها، بينما مقاطع اللعب وأسلوبها Gameplay تدفعك في كل اتجاه لتعظيم قوتك وأن تسير على خطى عدوك!
البطل المحقق
بعيداً عن كل هذا في إحدى محاضرات المصمم Ken Levine -مصمم لعبة Bioshock ذاتها- عن السرد في الألعاب تحدث عن أن أفضل وسيلة لطرح قصة من خلال لعبة أن تجعل البطل يلعب دور المحقق لأنه بذلك سيتشارك مع اللاعب في نفس المشاعر والشوق لاستكشاف الأمور ومعرفة ما يحدث والإجابة على الأسئلة العالقة، بينما أنماط الأبطال الأخرى كالمقاتل مثلاً لا يمكننا من خلاله أن نقدم قصة عميقة لأن المقاتل مرتبط بفعل القتل لا فعل معرفة القصة.
الألعاب تعرّف بأفعالها
وهذا يذكرني بمقال آخر قرأته منذ عدة سنوات -حاولت البحث عن رابطه لكنني للأسف لم أجده-، ويتحدث عن أن الألعاب تعرف بأفعالها، أي الأفعال التي يقوم بها الأبطال، وأغلب الألعاب تتمحور أفعالها حول أفعال ذات بعد حركي مثل أن يقتل البطل أعداءه أو يتسابق أو يقفز أو يجمع النقاط، وقلما نجد ألعاباً ذات أفعال لها بعد روحي مثل أن يشعر بالحب أو يشعر بالغربة.
شذرات حول ألعاب الرعب والتجسس
من الظواهر الغريبة في عالم الألعاب والتي لا نجدها في السينما والأدب هو أن ألعاب رعب البقاء (Survival Horror) تقبع على قمة الألعاب رقياً وفنية بينما يعاني أدب الرعب من التهميش واعتباره ليس أدباً، وأفلام الرعب تعاني من ذات الأمر ومن نعتها بالأفلام الرخيصة، وهو أمر محير فعلاً، فأي قائمة لأفضل قصص الألعاب وأكثرها عمقاً لا تخلو من ذكر سلسلة Silent Hill، وألعاب مثل Resident Evil وDead Space لا تحتوي على ذلك التنافر السردي، فما السبب وراء ذلك؟
السبب وراء ذلك أن ألعاب الرعب تحمل خط سرد موحد بين مقاطع القصة واللعب، فالقصة تركز على إرعاب اللاعب وإخافته، ونفس الشيء مقاطع اللعب، وفي كلا الحالتين يحافظ السرد على خط منطق مقنع لثبات المشاعر والأفكار بين القصة واللعب، فذات البطل المغلوب على أمره الذي يصارع للبقاء حياً في مقاطع القصة السينمائية في اللعبة، هو ذات البطل الذي يختبئ من الوحوش المرعبة ويتلافاها ويحاول الاقتصاد في ذخيرته القليلة حتى يصل إلى بر الأمان، وفي ذات الوقت في أغلب ألعاب الرعب يكون البطل محققاً يحاول استكشاف ما يحدث حوله، مما يسمح بالاندماج بينه وبين اللاعب، وأن يصبحا فعلاً شخصاً واحداً، وفوق ذلك كله ترتكز ألعاب الرعب في الغالب على أفعال أكثر عمقاً مثل البقاء والصراع من أجله والخوف والاستكشاف، ولأجل هذا كله كانت ألعاب الرعب من أرقى الألعاب.
نفس الأمر ينطبق على ألعاب التجسس Stealth games، فهي تحافظ على سرد موحد بين القصة واللعب، وأسلوب لعب مقنع له ما يبرره قصصياً، وبطل يحاول استكشاف ما حوله، وترتكز هذه الألعاب على أفعال أعمق مثل التخفي والمحافظة على السرية اللذيّن يكونان في الغالب لبواعث وطنية إنسانية حسب القصة كما في السلسة الشهيرة Metal Gear Solid.
من المعتقدات السائدة بين اللاعبين وحتى بعض مصممي الألعاب هو أن أرقى الألعاب قصصياً هي ألعاب تعاقب الأدوار Role-playing game (RPG) أمثال سلسلتي Final Fantasy وMass Effect، ولكن هذا ليس صحيحاً من وجهة نظري، فألعاب تعاقب الأدوار تتميز فعلاً بضخامة المحتوى القصصي وتنوعه على مدار اللعبة، ولكنها في النهاية تحتوي على جميع أمراض الألعاب السردية وعلى رأسها مشكلة التنافر السردي.
ما أود قوله أن أرقى أنواع الألعاب المعروفة حالياً قصصياً وأنسبها لاحتواء القصص العميقة هي ألعاب رعب البقاء وألعاب التجسس، حتى أن أي لعبة من أي نوع آخر من الألعاب متى ما أرادت أن تتلافى مشاكل التنافر السردي فكل ما عليها أن تضيف بعض عناصر البقاء أو التجسس إليها، وهذا ما حصل في لعبة Beyond Good & Evil، فاللعبة على الرغم من أنها لعبة مغامرات بلاتفورمية إلا أنها تحتوي على عناصر واضحة من ألعاب التجسس كان لها دور واضح في المحافظة على تماسك اللعبة وعدم تنافر سردها خاصة وأن قصة اللعبة عميقة وعاطفية بعض الشيء تتحدث عن الديكتاتورية والمقاومة، والتي قال مخرج اللعبة Michel Ancel أنه وضع قصتها على خلفية ما أصاب العالم بعد أحداث 11 سبتمبر.
أخيراً، ما قلته في هذا المقال ليس إلا خلاصة لبعض الأفكار والقراءات، ولكنني لا أزعم أنه لا قصص راقية إلا في ألعاب التجسس والرعب، ولا أزعم أنه لا حل لمسألة التنافر السردي إلا بضم الألعاب لعناصر من هذين النوعين، قد يكون اللجوء إلى ألعاب التجسس والرعب أسهل الحلول المتاحة وأكثرها تجربة، ولكن ألعاب أخرى نجحت في حل هذه المشاكل باستخدام وسائل أخرى، وهذا ما نراه في ألعاب المصممين المستقلين التي تتميز بالجرأة على تجربة أساليب وحلول جديدة قد لا تجرؤ الشركات الكبرى على الاستثمار فيها أول الأمر، وألعب مثل Papers, please (راجع مقالي عنها هنا) وTo the Moon وLimbo خير مثال على ذلك.
أعجبك المحتوى؟
تفضل بتسجيل بريدك الإلكتروني حتى تصلك التدوينات القادمة عند نشرها في المجالات التي تهمك:
[wysija_form id=”1″]
كما نرجو منك عزيزي القاريء بأن تدعمنا بنشر هذا المحتوى على الوسط المفضل لديك من الشبكات الاجتماعية.
مقالة في منتهى الروعة. بصراحة كأنّك حللت شخصيتي واكتشفت السر الذي على أساسه أفضل ألعاب على غيرها؛ فالألعاب المذكورة في المقال تقع على قائمة الألعاب التي أفضلها وتحديدا Call of Cthulhu التي أزعم أني لم ألعب مثلها منذ سنوات.
وكالعادة مقال رائع جداً…
أختلف معك في نقطة واحدة وهي عندما قلت أنك تعتقد أن ألعاب تعاقب الأدوار تحتوي على جميع أمراض التنافر السردي،، أنت صححت هذه العبارة في نهاية المقال، لكن لا أعتقد أن هناك أهمية لنوع اللعبة (أو تصنيفها) ووجود هذه الأمراض. وخاصة ضمن تصنيفاتنا الحالية العقيمة، فلعبة ماس إفكت مختلفة تماماً عن فاينال فانتاسي ولهما نفس التصنيف.
المهم هو التوافق بين الMechanics وطبيعة هذه القصة، كما ذكر في هذه الحلقة http://www.youtube.com/watch?v=YQ44hVeVdEw من إكسترا كريدتز (وعندهم حلقات أخرى تتحدث حول هذا الموضوع)
فمثلاً لا أعتقد أن ماس إفكت تعاني من هذه الأمراض، كونها لا تضعك في الأكشن إلا في وقت الأكشن. وغالباً اللحظات الهادئة والحوارات الجميلة تكون في أماكن جميلة وصامتة مثل السيتادل أو على مركبتك. بينما بقية الحوارات تكون حول الموقف الحالي والمخاطر الحالية عندما تكون في قلب المعركة.
وأعتقد أن سبب الاعتقاد السائد بأن ألعاب الأربيجي هي الأفضل لسرد القصص، هو التنوع الذي تحدثت عنه، على الرغم أنه ليس له علاقة مباشرة بجودة القصة، ولكن ضخامة عالم سكايرم والأمور الجانبية فيه، تسمح للاعب بأن يعيش التجربة، وكأنها حياته، فهو يشارك بالأندية المختلفة ليتدرب، ويخرج في رحلات الصيد فقط ليتدرب وليجمع النقود، وهذا الأمر هو نفسه أحد ما يجعل papers please لعبة ممتازة، فجمع النقود في اللعبة ليس لمجرد جمع نقاط بل أنت بالفعل تكد وتجتهد لكي تحافظ على عائلتك (وما إلى ذلك)… ولا أنكر أبداً وجود مشاكل كبيرة جداً في لعبة سكايرم بل الأمراض التي ذكرتها هي جزء بسيط من كمية المشاكل الكبيرة في سرد القصة في سكايرم.
لكن عندما تلعب ألعاب مثل Dragon Age أو Mass Effect أعتقد أن الوضع يختلف تماماً. وبالمناسبة Metal Gear تحتوي على بعض هذه الأمراض وخاصة عندما تتحدث ساعة على الهاتف وأنت في قلب المطاردة أو الأكشن. (وهذا ما جعل كثير من اللاعبين يفوتون المكالمات في اللعبة)