عندما تتجاهل اللعبة التجارة
يقول إدمند ميكميلن (Edmund McMillan) مطوّر لعبة ميت بوي (Meat Boy) أنه كان على وشك أن يبيع لعبته The Binding of Isaac بمقابل 20 أو 30 ألف دولار لموقع ألعاب فلاشي مثل AdultSwim ثم أضاف:
“كان ذلك ليكون خطأً شنيعاً!”
اللعبة التي كانت ستباع بمبلغ كهذا حققت الملايين اليوم، مطوّر اللعبة قلل من شأنها، وأخطأ في تقدير ما يمكن أن تحققه من مبيعات، رغم خبرته الكبيرة في هذا المجال، وكونه قد قام سابقاً بالعمل على لعبة حققت الملايين مثل Super Meat Boy.
“لقد ظننت أن لعبة كهذه ستكون موجهة لعدد محدود جداً من الجمهور”
لقد ظنّ أن اللعبة بطابعها الغريب والظلامي جداً ستناسب الأشخاص الذين يفكرون بطريقة غريبة، أو لديهم القدرة على فهم هذا الطابع الغريب للعبة، لكنه تفاجأ بشريحة كبيرة من اللاعبين.
لماذا قد يُعجب عدد كبير من الأشخاص بلعبة قال عنها البعض بأنها ” مريضة ” ؟ أظن أن الإجابة في ما قاله بعد ذلك.
“إن كنتُ متردداً, فإن هناك أمراً ذا قيمة يحتاج لأن أكتشفه”
مقولة إدمند هذه ذكرتني بنصيحة كانت ضمن مجموعة من النصائح نشرها قبل العمل على The Binding of Isaac، يقول في أول نصيحة: ” كن صادقاً ” دفعه مطلب أن يكون صادقاً لأن يضيف كل ما يعبر عنه حتى إن كان ” ظلامياً أكثر مما ينبغي ” أو استخدام الرموز الدينية الكثيرة والتي جعلته يقلق من طبقة المتدينين وأنهم قد يتعرضون له بسببها، لكنه لم يكترث لذلك كله وقام بتصميم اللعبة التي تعبر عما بداخله وما في مخيلته الملتوية، وتجاهل التردد الذي في رأسه لينشر اللعبة التي يريدها هو قبل كل شيء.
عندما جربت The Binding of Isaac لأول مرة، قمت بتجريب النسخة الفلاشية المجانية الموجودة على موقع newgrounds، ولسبب ما؛ أعجبتني اللعبة جداً وقمت بشراءها، اللعبة من بعيد تبدو كلعبة بسيطة جداً وساذجة وقد يظنها البعض أنها لعبة موجهة للأطفال، لكنها مناسبة لأعمار 16 فما فوق بحسب تقييم pegi. اللعبة تعبر عن رعب وألم عميق لطفل صغير تريد أمه أن تقتله، السلاح الرئيسي في اللعبة هو ” الدموع “، والذي بدوره غير منطقي بتاتاً، والأعداء في اللعبة أحياناً مجرد ذباب أو أشياء أخرى غير خطيرة، ولسبب ما؛ قد تجد ” ذبابة جميلة ” فتصبح صديقتك وتقاتل إلى جانبك. هذه الأمور التي هي من عالم مختلف؛ جعلتني أشعر بأنني أعيش في عقل طفل صغير، يعيش في صراع داخلي، وشعرت بما يشعر به من رعب وألم قد لا يمكن أن يفهمه الكبار إلا عن طريق لعبة فنية كهذه – وقد يكون ذلك الطفل الصغير هو إدمند نفسه. وبالطبع ما جعل إيصال هذا الإحساس ممكناً هو الموسيقى المميزة والحزينة للعبة.
صناعة الألعاب تتجه اتجاهين: طريق الفن، وطريق المشاريع التجارية. جميع المطوّرين يعلمون ذلك؛ بعضهم يدركونه بشكل لا واعي، هذا حصل بالفعل في كثير من الصناعات الفنية الأخرى، وعلى رأسها الأفلام والغناء، والتي طغى عليها الجانب التجاري إلى حد كبير، وهاهو الأمر يعيد نفسه مع نشأة صناعة الألعاب، وقد يكون الأمر أسوأ في الألعاب بسبب أنها نشأت على أساس تجاري وهو نموذج ألعاب الأركيد.
على الرغم أن الألعاب بدأت بداية اعتمدت تماماً على عصر النقود من المستخدم، إلا أنها ازدهرت مع بداية عصر المنصات المنزلية، وأصبح هناك ألعاب ممتعة جداً وبجودة عالية. وكان هناك أعمال فنية كبيرة صدرت في هذه الأجيال الأولية لهذه المنصات مثل Metal Gear و Final Fantasy والتي لا تزال من أنجح السلاسل حتى هذا اليوم. لكن مع ظهور منصات الإنترنت والموبايل، بدأت تنتشر ألعاب ” شريرة ” استخدمت فيها الشركات الكبيرة أساليب سيكلوجية بغيضة تجعل اللاعب يدمن على اللعبة وتصبح جزء من حياته اليومية حتى إن لم تكن ممتعة بالنسبة له. وقد تحدث عن ذلك جوناثان بلاو (Jonathan Blow) مطور لعبة برايد (Braid) في أكثر من محاضرة له سنتطرق لها لاحقاً.
كما ذكر في المحاضرة؛ الألعاب التجارية هذه يكون نظام اللعبة أو نواة اللعبة وأصلها قائم على طرق ذكية -وملتوية- لتجعل اللاعب يدفع، ولهذا معظم هذه الألعاب تكون مجانية، لأنها لو كانت بمقابل مادي لن يلعبها أي شخص، لسطحيتها ورتابتها، ألعاب مثل Temple Run أو Farmville والتي لا تحمل أي قيمة فنية، أو علمية، أو تراثية، ولا تنمي أي نوع من المهارات إلا ربما القدر البسيط والذي لن يفيدك إلا في اللعبة نفسها، ولهذا تجذب هذه الألعاب غالباً جمهور غير متمرس على الألعاب والذي يريد قضاء بعض الوقت، وأحياناً تجذب بعض اللاعبين المتمرسين، لكنهم يريدون بعض الألعاب الخفيفة على الجوال أو في مكان العمل ولذلك يريدونها ألعاب بسيطة، ولكنهم بعد فترة يبدؤون بقول أشياء مثل:
“إنها مجرد نصف دولار سأدفعها وأقوم بإنهاء هذا البناء بدل أن أنتظر ساعتين”
السبب الذي قد يدفع المطوّر لتطوير مثل هذه الألعاب المجانية هو أن تسويقها أسهل. وقد نجحت الكثير من الألعاب بهذه الطريقة، وخاصة عندما تكون ألعاب ” اجتماعية ” (وهي في الحقيقة ليست اجتماعية سوى أنها تزعج الآخرين ممن لا يلعبون اللعبة على الشبكات الاجتماعية). وللأسف الكثير من المطورين المستقلين اندفعوا باتجاه تطوير ألعاب ربحية بحتة، وسيكون هو أول من يبتعد عن لعبته.
لا يمكن القول أن كل الألعاب المجانية سيئة، فلعبة Angry Birds لعبة لا بأس بها وتؤدي غرضها عندما تريد أن تلعب لعبة للتسلية وأنت مستلق ولا تريد إجهاد عقلك بالتفكير أو بمتابعة قصة اللعبة، بينما لعبة DOTA 2 والتي تعد من أنجح الألعاب لهذا العام لعبة مجانية تماماً، وكل ما يمكن شراؤه في اللعبة هو مجرد مجموعة أسلحة ودروع للديكور، ولن تعطيك أي أفضلية على اللاعبين الآخرين، وحافظت على ماهي عليه من تعقيد ورصانة، وهي لعبة موجهة للمتمرسين بامتياز.
معظم الحالات التي تستفز المستخدم لأن يدفع المزيد من النقود في الألعاب المجانية في الحقيقة لا تضيف لمتعة اللعبة شيئاً؛ بل عادة ما تقلل منها، فمثلاً الكثير من الألعاب تجعلك تدفع لتصبح – ظلماً وعدواناً- أفضل من اللاعبين الآخرين وشخصيتك أقوى لمجرد أنك دفعت. والأسوأ من ذلك عندما تدفع لكي تتخطى الملل الذي تفرضه عليك اللعبة! وعادة ما يكون هذا الملل على شكل وقت انتظار طويل لا داعي له، أو أعمال مملة يجب أن تقوم بها مثل دعوة أصدقاءك للعبة أو جمع أشياء كثيرة ولا يتطلب أي مهارة … إلخ. هناك الكثير من الطرق للربح من الألعاب المجانية بدون أن يؤثر ذلك على روعة اللعبة أو يقلل من جانبها الفني، وهو مجال يطول البحث فيه.
النموذجين -التجاري والفني- يصلحان لجمع مبالغ طائلة من النقود، ولا يوجد مبرر لأن يصمم المطوّر ألعاب سيئة ليحصل على النقود. الحس الفني يزداد بالاستمتاع بالأعمال الفنية ونقدها، والمشاريع التجارية يمكن تعلمها بتعلم مبادئ التجارة -وفي هذه الحالة- أساليب ابتزاز المستخدم سيكلوجياً. يمكنك العمل على تطوير أي مجموعة تريدها من المهارات، وبالطبع؛ مهارات التسويق مهمة، لكنها ليست الأصل في صناعة الألعاب الممتعة. في النهاية؛ مهارات معظم الفرق المستقلة جداً ضئيلة. وبالحديث عن The Binding of Isaac فالمطوّر بدأ بها وهو لا يفكر ببيعها أو الربح منها أساساً!
بعد 25 سنة من اليوم، سينظر الناس إلى أعمال المستقلين العظيمة كنجوم مشعة في السماء، لن يتذكر أحد هذه الألعاب المجانية المملة، ولكنهم سيتذكرون الأعمال الفنية التي ساهمت في إنقاذ صناعة الألعاب من الرتابة والتكرار، وستتحدث الوثائقيات عن ” ثورة الإندي ” التي بدأت في 2008، وسيكون هناك وثائقيات حول ألعاب هذه الحقبة. بل سيكون هناك من يلعب هذه الألعاب حينئذ كما نلعب اليوم ألعاب الثمانينات، وكما يشاهد عشاق الأفلام الأعمال المميزة التي صُنعت بالأبيض والأسود حتى هذا اليوم.
ختاماً، أترككم مع بعض المقاطع المفيدة ذات الصلة (باللغة الإنجليزية):
محاضرة كاملة حول إدمان الألعاب التجارية وكيف أن الشركات تقوم بالفعل بالتفكير بشكل ” شرير ” قدمها جوناثان بلاو (Jonathan Blow) مطوّر لعبة برايد (Braid) أنصح بمشاهدتها فالمحاضرة قيمة جداً، وهو أفضل في شرح هذا الموضوع الذي هو ضمن مجال بحثه دائماً:
المقابلة الكاملة مع Edmund وتحدث فيها عن Isaac وفيها معلومات قيمة أخرى:
محاضرة أقصر وأحدث لجوناثان وتشرح الموضوع بشكل مبسط:
إذا أعجبتك التدوينة، نأمل منك أن تسجل بريدك الإلكتروني بالأسفل حتى تصلك تدويناتنا القادمة في المجالات التي تهمك:
[wysija_form id=”1″]
كما نتمنى أن تدعمنا بنشر هذه التدوينة على الشبكات
.الاجتماعية المفضلة لديك:
مقال مثير للأهتمام , أعجبتني المدونة .
[…] […]
مدونة مميزة قرأت جل مواضيعها بشغف وبدون ملل هذا مانفتقده في عالمنا العربي التخصص وفقكم الله أخي العزيز